*تم نشر هذا المقال بجريدة الشروق بتاريخ 2012.02.27
جاء على صفحات ملحق الأهرام
منذ فترة مقال بعنوان "الشعب يريد سيارة شعبية"، يرسم ملامح لحل قضية
التنقل في مصر من خلال صناعة سيارة مصرية منخفضة الثمن، كما أن هناك مجموعات
داخل دوائر التصنيع تروج لأفكار مماثلة.
فهل السيارة الشعبية هى الحل
الأمثل لقضية التنقل فى مصر؟
لنتناول التنقل في أكبر
وأكثر مدن مصر تطورا.. القاهرة. تشير دراسة لمنظمة الأمم المتحدة للتنمية (UNDP) إلى أن 10% فقط من سكان القاهرة الكبرى
يستخدمون السيارة الخاصة في مشاويرهم اليومية، فى حين أن يستخدم حوالى 60% من
سكان القاهرة وسائل التنقل الجماعية، أي الأتوبيسات والمترو، ولكن الميكروباص يحظى
بنصيب الأسد من بين وسائل النقل الجماعية، ويتبقى ثلث سكان القاهرة دون سيارة خاصة
أو وسيلة مواصلات، فهم يستخدمون وسائل تنقل غير مميكنة، أى المشي والدراجات وعربات
الكارو.. نعم، الكارو.
شارع الفسطاط، القاهرة، وزارة الإسكان الظل |
أوضحت الدراسة نفسها أن تقل
نسبة استخدام السيارة في مدن الريف، بينما تزيد نسبة التنقل غير المميكن إلى النصف
تقريبا. فإذا كانت مدننا كلها تعاني من أزمة في المرور، فكيف نعتبر السيارة حل؟
الحقيقة الأولى هي أن معظم
زحمة الطرق (نحو 75 %) ناتجة من السيارات الخاصة، بينما 10% فقط من المواطنين يستخدمونها. هذا
لإن في أفضل الأحوال السيارة تقل 4 أو 5 أفراد، لكن في الوقت نفسه ينقل
الميكروباص، الذى هو أكبر من السيارة بشئ بسيط، حوالي 12 راكب، أى
كل ميكروباص يمثل 3 سيارات كاملة الحمولة.
الحقيقة الثانية أن أكثر نظم
التنقل الجماعي استخداما هى الميكروباص الذى تم تمويله ذاتيا بالمجهودات الذاتية
وليس المترو الذى أنفقت عليه الدولة المليارات، ولا أتوبيسات النقل العام التى
أنفقت عليه عشرات الملايين.
الحقيقة الثالثة هي أن رغم
أننا في القرن الواحد والعشرين، وأن القاهرة تعتبر أكثر المدن تحضرا في مصر، بل في
شمال أفريقيا، فلا تزال وسائل التنقل الأولية والبسيطة كالمشي والدراجات والكارو
تمثل وسيلة التنقل الأساسية لثلث سكان الإقليم.
مصنع بالقرب من قرية ميت رهينة، الجيزة، وزارة الإسكان الظل |
هناك من سيقوم بقراءة هذه
الحقائق كدليل لأهمية التوسع في مبيعات السيارات، والوصول للفئات الأدنى دخلا لكي
يتركوا وسائل التنقل البدائية غير المميكنة ووسائل التنقل الجماعية المزدحمة و"يصعدوا"
إلى وسيلة التنقل الأكثر كرامة وإنسانية، فى رأيهم، وهي السيارة الخاصة. لهؤلاء
أقول إن السيارة الخاصة وسيلة تنقل غير عادلة وغير مستدامة في مصر اليوم، فما بالك
على المدى الطويل؟
فمثلا تحظى السيارة الخاصة
بدعم من الدولة للبنزين للاستخدام الخاص يعادل 13.7 مليار جنيه في العام الحالي 2011/2012. إذا
قمنا بخصم نحو 2.8 مليار جنيه، وهو مؤشر لمتوسط رسوم التراخيص كل عام، و4.4 مليار
جنيه رسوم الجمارك المحصلة فى العام الماضى،
سيتضح أن صافي الدعم نحو 6.5 مليار جنيه. بالمقارنة يصل لثلثى
السكان الذين يستخدمون الوسائل الجماعية نحو 9 مليار جنيه دعم للمحروقات
المستخدمة في النقل الجماعي (السولار)، أي أن نسبة دعم السيارة الخاصة إلى نسبة
دعم المواصلات العامة حوالي أربعة أضعاف (وهذا دون تعقيد الأمر بحساب إيرادات
التذاكر وإلخ...). أما الـ 30% الذين يستخدمون وسائل غير مميكنة فيصلهم صفر من
الأموال العامة من الاستثمارات أو الدعم، بما معناه أن ثلث عملية المواصلات
الحالية لا تمثل أي عبء على الدولة.
فإذا تم إلغاء الدعم في
المستقبل القريب عن البنزين، ووصل اللتر منه 5 أو 6 أو 7 جنيه مقارنة بـ90 قرش لأرخص
بنزين عندنا وهو الـ80، الذي ما زالت تقوم عليه الحروب الأهلية والاحتجاجات
لغيابه والتلاعب به بالسوق السوداء؟ إذا باتت الطرق المرورية بمدن مصر جميعها
مكتظة ليصل متوسط سرعة السير 20 كم/الساعة، ومتوسط مدة المشوار
ساعة ونصف، فأين سنقوم برصف طرق جديدة؟ إذا وصلت معدلات التلوث داخل
المدن إلى نسب غير محتملة، فماذا سيحدث إذا استمرت زيادة عدد السيارات الموجودة
بشوارعنا؟
السيارة الخاصة ببساطة ليست
الحل.
إذن فما هو الحل الذي لا
يحتاج لنسبة دعم مرتفعة لوقوده ولا يسبب تكدس مروري ويكون في متناول الغالبية
العظمى من المواطنين؟
فماذا إذا تم إعادة توزيع
هذا الدعم على شكل إستثمارات في نظم التنقل الجماعي التي يستخدمها أكثر من ثلثي
المواطنين؟ وماذا إذا قمنا بتشجيع الوسائل غير المميكنة التي لا تمثل أي عبء على
المحروقات، وإعترفت الدولة بوجودها وسعة إستخدامها؟
فمثلا، مشاريع النقل الجماعي
السريع للضواحي والمدن الجديدة بإمكانها رفع كفاءة المدن الجديدة التى استثمر فيها
المليارات عن طريق توفير وسيلة نقل إقتصادية وآمنة بدلا من الأموال المهدرة على دعم السيارة الخاصة وإنخفاض معدل إستخدام
المدن الجديدة. فإذا كلف كل مشروع لربط القاهرة بمدينة تابعة لها مثل السادس من
أكتوبر، بترام أو أتوبيس سريع له حارته الخاصة فى حدود المليار جنيه (والدراسات موجودة)، سيكون مردوده من توفير في فاتورة دعم السيارات الخاصة
يفوق قيمة المشروع بأضعاف.
أما على المستوى المحلي،
فالمدن بوجه عام تحتاج إلى استثمارات أعلى بكثير من مستواها الحالي في النقل
الجماعي، حيث لا تتناسب أعداد المركبات وخطوط السير مع أعداد المستخدمين. فإذا
نظرنا إلى التجربة الذاتية من الميكروباص والتوك توك كتجارب ناجحة لحل أزمة التنقل
المحلي، فلما لا تستثمر الدولة فى مشاريع تنقل محلية تجمع بين القطاعى العام
والخاص وتقلد حسنات الميكروباصات؟ هناك أيضا استثمارات ثانوية لا بد منها مثل
توفير مسارات سير للمشاة، نظرًا لاختفاء الأرصفة تحت بضاعة المحلات وكراسي
القهاوي، وتوفير أماكن عبور أكثر بكثير من الموجود لتشجيع قطاع أكبر على استخدام
وسائل التنقل الجماعي. لا بد أيضا أن تكون الوسائل آمنة للسيدات، وتكون سهلة لكبار
السن والمعاقين. من الآخر لا بد أن تكون وسائل التنقل كريمة.
مصر الجديدة، القاهرة، وزارة الإسكان الظل |
داخل إطار هذا المستوى
المحلي، لا بد من تشجيع وسائل التنقل غير المميكنة لتستمر في تحمل جزء من العبء،
ولأنها لا تزال تكلف مستخدميها أقل التكاليف. فلا بد من الاستثمار في زيادة تأمين
الطرق لهم وعمل أماكن مؤمنة لانتظار الدراجات بمحطاط التنقل الجماعى وبأماكن العمل
والتنزه. أما الكارو، فلا بد من اعتراف الدولة بمدى حجم اقتصاد هذه الشريحة من
مستخدميه وما يمثله من مصدر للدخل. فيجب إعادة استيعابه في شوارع المدن وتخصيص
خطوط سير له بالمناطق التي يعمل بها، كما أنه يمكن التوسع في استخدامه في المحميات
الطبيعية والقرى السياحية والمناطق الحساسة لتلوث الهواء.
بالنسبة لتوفير فرص للعمل
والتوسع في قطاع الصناعة، فوسائل التنقل الجماعي والتنقل غير المميكن تمنح فرصا من
السهل أن تعادل أو تزيد عن فرص السيارات الخاصة. أما بالنسبة للدراجات، فهل يعقل أننا توقفنا عن إنتاجها؟ فكيف نحن متفائلون
بصناعة السيارة إذا لا نقوم بصناعة أبسط وسائل التنقل؟
الدراسات والإحصائيات كلها
موجودة وتشير إلى أن عملية تطوير منظومة التنقل تحتاج إلى مجرد إعادة ترتيب
للأموال الموجودة طبقا لأولويات يحددها الواقع الاجتماعي دون اللجوء لاستثمارات أو
قروض إضافية، بل ستوفر الكثير على دافعي الضرائب. كل ما هو مطلوب هو شخص شجاع وله
مصداقية عند المواطنين يضغط على زر التنفيذ.
of relevance
ReplyDeletehttp://cairobserver.com/post/17167618400/transport-operating-territories