أن ترى مثل أن ترى الدولة: كيف فشلت بعض الخطط لتحسين وضع الانسان
للكاتب: جيمس سى سكوت
عرض وتقديم: ليلى حافظ ، خاص لوزارة الإسكان الظل
شهد القرن العشرين العديد من المشاريع التى اقامتها بعض الدول بهدف تحسين اوضاع مواطنيها مثل اقامة المزارع الجماعية فى الاتحاد السوفيتى والقفزة الكبرى الى الامام فى الصين وفرض نظام المزارع الإجبارية فى اثيوبيا وتنزانيا وبناء عاصمة البرازيل الجديدة برازيليا... ولكنها كلها فشلت فى تحقيق اهدافها، وراح ضحيتها اعداد كبيرة من المواطنين، وأدت الى اضطراب حياة اعداد كبيرة اخرى. ويتساءل البعض عن الاسباب التى من اجلها فشلت تلك المشاريع، وان كنا تعلمنا الدرس لمنع تكرار تلك الاخطاء؟
وهذا أيضاً ما نتسأل عنه فى مصر، فمعظم مشاريع الدولة القومية تركزت على فكر إعادة توزيع السكان تحت شعار الخروج من الوادى والحفاظ على الأراضى الزراعية، بالإضافة إلى شعارات زيادة الإنتاج الزراعى والأمن الغذائى. ولكن رغم فشل مشاريع قومية كبيرة بعد إنفاق نسب كبيرة من الموازنة العامة عليها مثل توشكى (تم إستصلاح 5.5 بالمئة وإعادة توطين أقل من 1 بالمئة من المستهدف) أو المدن الجديدة (تسكين 20 بالمئة من المستهدف)، لازال الفكر التخطيطى القديم يسطر بمشاريع مثل ممر التنمية والمخطط الإستراتيجى للتنمية العمرانية - مصر 2052.
فمن اجل القاء الضوء على مثل تلك المشاريع، ومحاولة لفهم أهدافها وأسباب فشلها، نشر جيمس سى سكوت كتابه "أن ترى مثل أن ترى الدولة: كيف فشلت بعض الخطط لتحسين وضع الانسان"، حيث اوضح كيف ان معظم تلك التجارب قد تمثل وجهة نظر واحدة، او فكر واحد محدد؛ واطلق على هذا الفكر تعبير "الحداثة العالية" High Modernism، وهى أكثر أنساق "التخطيط الفوقى" تحكماً.
جيمس سى سكوت هو استاذ علوم سياسية وعلم الانسان فى جامعة ييل الامريكية؛ ومدير برنامج الدراسات الزراعية، ركز دراساته واعماله حول الوسائل المختلفة التى استخدمها المواطنون لمقاومة هيمنة الدولة. ولقد أبدى سكوت اهتماما من البداية بالمزارعين فى ماليزيا ثم فيتنام خلال الحرب فى فيتنام وكتب عن الاقتصاد الاخلاقى للمزارعين، وأوضح كيف استطاع المزارعون فى جنوب شرق اسيا مقاومة السلطة. ثم بدأ سكوت يوسع نطاق دراساته على المزارعين فى مناطق اخرى من العالم، وكتب عدة كتب عن ذلك. ثم بدأ يكتب عن مختلف وسائل الهيمنة والسيطرة ، السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية، التى تفرضها الدولة على شعوبها.
وفى كتابه "أن ترى مثل أن ترى الدولة" الذى صدر عام 1998، يدخل بنا جيمس سكوت الى عالم العلوم السياسية، حيث يشرح لنا كيف تحاول الحكومات المركزية ان تفرض على مجتمعاتها سياسات معينة من اجل ان تجعلها اكثر وضوحا وسهلة القراءة بالنسبة للحكومة؛ وهى فى نفس الوقت تعمل على أن تفقد المجتمعات المعرفة المحلية الخاصة بها؛ والتى يصفها بكلمة "metis" وهى كلمة يونانية قديمة تعنى المعرفة العملية.
الحداثة العالية
ويعيد سكوت مولد فكرة "الحداثة العالية" الى النظام الالمانى وتعبئة البلاد إبان الحرب العالمية الاولى؛ ولكن فكرة "الحداثة العالية" فى نظر سكوت لم تكن فقط سياسة النظم المستبدة والشمولية، ولكن تم تطبيق هذا النظام ايضا فيما عرف باسم "المزارع الصناعية" فى الولايات المتحدة، والتى تهدف الى تحقيق فكرة الانتاج الزراعى على نطاق واسع، مما دفع الخبراء الامريكيين الى الاهتمام بنظام المزارع الجماعية السوفيتية.
يرى سكوت ان "الحداثة العالية" هى محاولة من السلطات لتشكيل المجتمع بحيث يصبح متسقا مع القوانين العلمية. والخبراء فى هذا المجال على قناعة بان افضل وسيلة لسد الاحتياجات الانسانية هى من خلال توسيع رقعة الانتاج الزراعى والصناعى. وذلك سوف يأتى ليس من خلال الذكاء العملى لاعضاء المجتمع، ولكن من خلال المعرفة العلمية. ويرى البعض ان الانتاج فى حد ذاته يجب ان يتم حسب خطة، ولكن الجميع يرى ان المجتمع كله يجب اعادة تشكيله حسب تصميم عقلانى، وان المجتمع الحديث الحقيقى بعيد كل البعد عن كل ما هو تقليدى او صدفة.
كما يشير سكوت فى كتابه الى تجربتين اساسيتين فى التجارب الاجتماعية التى شهدها القرن العشرين، وهما التجديد العمرانى واعادة توطين المزارعين فى القرى، واكد ان تلك التجربتين هما أفضل أمثلة على محاولات استخدام الدولة لنظام التخطيط الفوقى لفرض نظام عقلانى على المجتمع. وهى محاولة من الحكومة لجعل المجتمع "مقروءا" وجعل الحياة الاجتماعية اكثر وضوحا وفهما لها، وبالتالى تصبح الدولة اكثر قدرة على السيطرة عليها من خلال السلطة السياسية.
مجتمعات العصور الوسطى
ويعطى سكوت امثلة على ذلك، عندما اشار الى شكل المجتمعات فى العصور الوسطى والتى كانت محكومة بالمعرفة المحلية، فلم يكن سهلا على اى شخص من خارج القرية او البلدة ان يعرف اى شئ عن المزارعين داخل تلك القرية؛ لان اى شخص فى حاجة الى معلومات محلية لكى يفهم ما يحدث فى قرية ما، وكل قرية لديها معلومات عن أبناءها، تختلف عن ابناء القرية الاخرى. لذا ففى عصور ما قبل الحداثة، كانت الدولة، فى معظم الامور المهمة، عمياء جزئيا؛ أى انها لم تكن تستطيع ان تعرف الكثير عن مواطنيها، عن ثرواتهم او ممتلكاتهم او اماكن تواجدهم او هويتهم. كانت تفتقد ما يمكن ان نطلق عليه "خريطة" تفصيلية عن ارضها وشعبها. كانت تفتقد فى اغلب الاوقات مقياسا يسمح لها "بترجمة" ما تعرفه الى معايير عامة، وهو ضرورى لوضع رؤية إجمالية. ونتيجة لهذا الغياب لم تنجح الحكومات السابقة فى تدخلاتها التى كانت فى معظمها فاشلة.
لذا كان على الحكومات الحديثة والمركزية لكى تحكم سيطرتها على القرى فى دولتها ان تضع تقنيات ومعايير عامة على كل شئ، والذى يتراوح من المقاييس الى الضرائب، والذى من خلاله يمكنها ان تسيطر على اقدار مواطنيها وثروات المجتمع. فقامت بعض الدول بزراعة نوع واحد من الشجر على سبيل المثال فى الغابات، وقامت دول اخرى بتشييد طرق مستقيمة ومتقاطعة فى المدن، وفرضت حكومات أخرى اسماء عائلات ثابتة، بدلا من الاسماء المحلية التى تعكس التاريخ العائلى لكل شخص، والذى لا يعرفه الا ابناء القرية او المدينة، هذا التاريخ يميز كل شخص عن الاخرين الذين لديهم نفس الاسم الاول.
كوارث انسانية
هذه "الحداثة العالية" هدفها تحويل المجتمعات لكى تعمل مثل الشركة الضخمة همها الاساسى هو الربح. والذى سيؤدى حتما من وجهة نظر الدولة الى تحسين معيشة المواطنين. ولكن فى واقع الامر، لم تؤد تلك النظم الا الى المزيد من الفقر، واحيانا الى كوارث انسانية كبيرة، كما حدث فى الصين نتيجة لسياسة القفزة العظيمة الى الامام، وسياسة المزارع الجماعية فى روسيا، والمزارع الاجبارية فى تنزانيا وموزمبيق واثيوبيا، والتى راح ضحيتها عدد كبير من الارواح، او أدت الى إضطراب حياة العديد من البشر. حتى ولو كانت النوايا حسنة.
اوضح جيمس سكوت كيف ان معظم المراحل المأساوية التى عرفناها فى تاريخ التنظيم الاجتماعى بدأت مع ضم اربع عوامل قاتلة، وكلها ضرورية لخلق كارثة حقيقية على نطاق واسع.
العوامل الاربعة هى، اولا قيام الدولة بتنظيم المجتمع والطبيعة إداريا. هذا العامل وحده يعتبر أداة بسيطة فى فن ادارة الدولة الحديثة؛ وهى مهمة من اجل تحقيق الازدهار للبلاد ولتأكيد الحريات، ولكنها ايضا مهمة من اجل تشكيل صورة الحاكم المستبد الحديث. والعامل الثانى هو نشر فكر "الحداثة العالية"، ثم ثالثا وجود نظام مستبد مستعد لاستخدام الوسائل القمعية من اجل نشر تصميماته للتخطيط الفوقى، واخيرا وجود مجتمع مدنى ضعيف يفتقد للقدرة على مقاومة تلك الخطط.
يقول سكوت انه عندما تجتمع تلك العوامل الاربعة معا، كما حدث فى نظام الاتحاد السوفيتى والصين وبعض دول العالم الثالث، فانه من الطبيعى ان تشهد البلاد أسوأ كوارث يمكن ان تحدث فى البناء المجتمعى.
لماذا تفشل؟
لماذا اذن تفشل تلك المشاريع فى تحسين اوضاع الانسان؟ يقول سكوت ان ذلك يحدث لان تلك الحكومات أخطأت خطأ خطيرا فى رؤيتها للمعرفة الانسانية. فقد تصور خبراء التخطيط الفوقى انهم يعرفون كيف تعمل المجتمعات افضل مما يعرف المواطنون العاديون. وكان هدفهم استبدال المفهوم العام للحياة المجتمعية بالمعرفة العلمية. ولكن المعرفة العلمية شيئا هلاميا ومن الصعب ان تساعد فى فهم الظروف المحلية، أو المعرفة العملية التى يطلق عليها اليونانيون القدماء كلمة "metis". تلك المعرفة التى تجاهلتها الحكومات الحديثة عندما حاولت اعادة توطين المزارعين فى القرى الجديدة. انها المعرفة التى يفتقدها خبراء التخطيط العمرانى عندما يحاولون بناء المدن على أساس تصميمات بسيطة وشاملة.
وهكذا، يلقى سكوت الضوء على اسباب فشل مشاريع "الحداثة العالية" فى القرن العشرين، والكوارث التى لحقت بها، وهى فى الاساس تجاهل المعرفة العملية. وان الشئ الوحيد الذى انقذ بعض المجتمعات من الدمار الذى لحق بالأخرين من تلك المشاريع الهزلية هو وجود مواطنين يملكون ثراء فكريا وحكمة توارثوها عن أجدادهم، جيل بعد جيل.
للكاتب: جيمس سى سكوت
عرض وتقديم: ليلى حافظ ، خاص لوزارة الإسكان الظل
شهد القرن العشرين العديد من المشاريع التى اقامتها بعض الدول بهدف تحسين اوضاع مواطنيها مثل اقامة المزارع الجماعية فى الاتحاد السوفيتى والقفزة الكبرى الى الامام فى الصين وفرض نظام المزارع الإجبارية فى اثيوبيا وتنزانيا وبناء عاصمة البرازيل الجديدة برازيليا... ولكنها كلها فشلت فى تحقيق اهدافها، وراح ضحيتها اعداد كبيرة من المواطنين، وأدت الى اضطراب حياة اعداد كبيرة اخرى. ويتساءل البعض عن الاسباب التى من اجلها فشلت تلك المشاريع، وان كنا تعلمنا الدرس لمنع تكرار تلك الاخطاء؟
وهذا أيضاً ما نتسأل عنه فى مصر، فمعظم مشاريع الدولة القومية تركزت على فكر إعادة توزيع السكان تحت شعار الخروج من الوادى والحفاظ على الأراضى الزراعية، بالإضافة إلى شعارات زيادة الإنتاج الزراعى والأمن الغذائى. ولكن رغم فشل مشاريع قومية كبيرة بعد إنفاق نسب كبيرة من الموازنة العامة عليها مثل توشكى (تم إستصلاح 5.5 بالمئة وإعادة توطين أقل من 1 بالمئة من المستهدف) أو المدن الجديدة (تسكين 20 بالمئة من المستهدف)، لازال الفكر التخطيطى القديم يسطر بمشاريع مثل ممر التنمية والمخطط الإستراتيجى للتنمية العمرانية - مصر 2052.
فمن اجل القاء الضوء على مثل تلك المشاريع، ومحاولة لفهم أهدافها وأسباب فشلها، نشر جيمس سى سكوت كتابه "أن ترى مثل أن ترى الدولة: كيف فشلت بعض الخطط لتحسين وضع الانسان"، حيث اوضح كيف ان معظم تلك التجارب قد تمثل وجهة نظر واحدة، او فكر واحد محدد؛ واطلق على هذا الفكر تعبير "الحداثة العالية" High Modernism، وهى أكثر أنساق "التخطيط الفوقى" تحكماً.
جيمس سى سكوت هو استاذ علوم سياسية وعلم الانسان فى جامعة ييل الامريكية؛ ومدير برنامج الدراسات الزراعية، ركز دراساته واعماله حول الوسائل المختلفة التى استخدمها المواطنون لمقاومة هيمنة الدولة. ولقد أبدى سكوت اهتماما من البداية بالمزارعين فى ماليزيا ثم فيتنام خلال الحرب فى فيتنام وكتب عن الاقتصاد الاخلاقى للمزارعين، وأوضح كيف استطاع المزارعون فى جنوب شرق اسيا مقاومة السلطة. ثم بدأ سكوت يوسع نطاق دراساته على المزارعين فى مناطق اخرى من العالم، وكتب عدة كتب عن ذلك. ثم بدأ يكتب عن مختلف وسائل الهيمنة والسيطرة ، السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية، التى تفرضها الدولة على شعوبها.
وفى كتابه "أن ترى مثل أن ترى الدولة" الذى صدر عام 1998، يدخل بنا جيمس سكوت الى عالم العلوم السياسية، حيث يشرح لنا كيف تحاول الحكومات المركزية ان تفرض على مجتمعاتها سياسات معينة من اجل ان تجعلها اكثر وضوحا وسهلة القراءة بالنسبة للحكومة؛ وهى فى نفس الوقت تعمل على أن تفقد المجتمعات المعرفة المحلية الخاصة بها؛ والتى يصفها بكلمة "metis" وهى كلمة يونانية قديمة تعنى المعرفة العملية.
الحداثة العالية
ويعيد سكوت مولد فكرة "الحداثة العالية" الى النظام الالمانى وتعبئة البلاد إبان الحرب العالمية الاولى؛ ولكن فكرة "الحداثة العالية" فى نظر سكوت لم تكن فقط سياسة النظم المستبدة والشمولية، ولكن تم تطبيق هذا النظام ايضا فيما عرف باسم "المزارع الصناعية" فى الولايات المتحدة، والتى تهدف الى تحقيق فكرة الانتاج الزراعى على نطاق واسع، مما دفع الخبراء الامريكيين الى الاهتمام بنظام المزارع الجماعية السوفيتية.
يرى سكوت ان "الحداثة العالية" هى محاولة من السلطات لتشكيل المجتمع بحيث يصبح متسقا مع القوانين العلمية. والخبراء فى هذا المجال على قناعة بان افضل وسيلة لسد الاحتياجات الانسانية هى من خلال توسيع رقعة الانتاج الزراعى والصناعى. وذلك سوف يأتى ليس من خلال الذكاء العملى لاعضاء المجتمع، ولكن من خلال المعرفة العلمية. ويرى البعض ان الانتاج فى حد ذاته يجب ان يتم حسب خطة، ولكن الجميع يرى ان المجتمع كله يجب اعادة تشكيله حسب تصميم عقلانى، وان المجتمع الحديث الحقيقى بعيد كل البعد عن كل ما هو تقليدى او صدفة.
كما يشير سكوت فى كتابه الى تجربتين اساسيتين فى التجارب الاجتماعية التى شهدها القرن العشرين، وهما التجديد العمرانى واعادة توطين المزارعين فى القرى، واكد ان تلك التجربتين هما أفضل أمثلة على محاولات استخدام الدولة لنظام التخطيط الفوقى لفرض نظام عقلانى على المجتمع. وهى محاولة من الحكومة لجعل المجتمع "مقروءا" وجعل الحياة الاجتماعية اكثر وضوحا وفهما لها، وبالتالى تصبح الدولة اكثر قدرة على السيطرة عليها من خلال السلطة السياسية.
مجتمعات العصور الوسطى
ويعطى سكوت امثلة على ذلك، عندما اشار الى شكل المجتمعات فى العصور الوسطى والتى كانت محكومة بالمعرفة المحلية، فلم يكن سهلا على اى شخص من خارج القرية او البلدة ان يعرف اى شئ عن المزارعين داخل تلك القرية؛ لان اى شخص فى حاجة الى معلومات محلية لكى يفهم ما يحدث فى قرية ما، وكل قرية لديها معلومات عن أبناءها، تختلف عن ابناء القرية الاخرى. لذا ففى عصور ما قبل الحداثة، كانت الدولة، فى معظم الامور المهمة، عمياء جزئيا؛ أى انها لم تكن تستطيع ان تعرف الكثير عن مواطنيها، عن ثرواتهم او ممتلكاتهم او اماكن تواجدهم او هويتهم. كانت تفتقد ما يمكن ان نطلق عليه "خريطة" تفصيلية عن ارضها وشعبها. كانت تفتقد فى اغلب الاوقات مقياسا يسمح لها "بترجمة" ما تعرفه الى معايير عامة، وهو ضرورى لوضع رؤية إجمالية. ونتيجة لهذا الغياب لم تنجح الحكومات السابقة فى تدخلاتها التى كانت فى معظمها فاشلة.
لذا كان على الحكومات الحديثة والمركزية لكى تحكم سيطرتها على القرى فى دولتها ان تضع تقنيات ومعايير عامة على كل شئ، والذى يتراوح من المقاييس الى الضرائب، والذى من خلاله يمكنها ان تسيطر على اقدار مواطنيها وثروات المجتمع. فقامت بعض الدول بزراعة نوع واحد من الشجر على سبيل المثال فى الغابات، وقامت دول اخرى بتشييد طرق مستقيمة ومتقاطعة فى المدن، وفرضت حكومات أخرى اسماء عائلات ثابتة، بدلا من الاسماء المحلية التى تعكس التاريخ العائلى لكل شخص، والذى لا يعرفه الا ابناء القرية او المدينة، هذا التاريخ يميز كل شخص عن الاخرين الذين لديهم نفس الاسم الاول.
كوارث انسانية
هذه "الحداثة العالية" هدفها تحويل المجتمعات لكى تعمل مثل الشركة الضخمة همها الاساسى هو الربح. والذى سيؤدى حتما من وجهة نظر الدولة الى تحسين معيشة المواطنين. ولكن فى واقع الامر، لم تؤد تلك النظم الا الى المزيد من الفقر، واحيانا الى كوارث انسانية كبيرة، كما حدث فى الصين نتيجة لسياسة القفزة العظيمة الى الامام، وسياسة المزارع الجماعية فى روسيا، والمزارع الاجبارية فى تنزانيا وموزمبيق واثيوبيا، والتى راح ضحيتها عدد كبير من الارواح، او أدت الى إضطراب حياة العديد من البشر. حتى ولو كانت النوايا حسنة.
اوضح جيمس سكوت كيف ان معظم المراحل المأساوية التى عرفناها فى تاريخ التنظيم الاجتماعى بدأت مع ضم اربع عوامل قاتلة، وكلها ضرورية لخلق كارثة حقيقية على نطاق واسع.
العوامل الاربعة هى، اولا قيام الدولة بتنظيم المجتمع والطبيعة إداريا. هذا العامل وحده يعتبر أداة بسيطة فى فن ادارة الدولة الحديثة؛ وهى مهمة من اجل تحقيق الازدهار للبلاد ولتأكيد الحريات، ولكنها ايضا مهمة من اجل تشكيل صورة الحاكم المستبد الحديث. والعامل الثانى هو نشر فكر "الحداثة العالية"، ثم ثالثا وجود نظام مستبد مستعد لاستخدام الوسائل القمعية من اجل نشر تصميماته للتخطيط الفوقى، واخيرا وجود مجتمع مدنى ضعيف يفتقد للقدرة على مقاومة تلك الخطط.
يقول سكوت انه عندما تجتمع تلك العوامل الاربعة معا، كما حدث فى نظام الاتحاد السوفيتى والصين وبعض دول العالم الثالث، فانه من الطبيعى ان تشهد البلاد أسوأ كوارث يمكن ان تحدث فى البناء المجتمعى.
لماذا تفشل؟
لماذا اذن تفشل تلك المشاريع فى تحسين اوضاع الانسان؟ يقول سكوت ان ذلك يحدث لان تلك الحكومات أخطأت خطأ خطيرا فى رؤيتها للمعرفة الانسانية. فقد تصور خبراء التخطيط الفوقى انهم يعرفون كيف تعمل المجتمعات افضل مما يعرف المواطنون العاديون. وكان هدفهم استبدال المفهوم العام للحياة المجتمعية بالمعرفة العلمية. ولكن المعرفة العلمية شيئا هلاميا ومن الصعب ان تساعد فى فهم الظروف المحلية، أو المعرفة العملية التى يطلق عليها اليونانيون القدماء كلمة "metis". تلك المعرفة التى تجاهلتها الحكومات الحديثة عندما حاولت اعادة توطين المزارعين فى القرى الجديدة. انها المعرفة التى يفتقدها خبراء التخطيط العمرانى عندما يحاولون بناء المدن على أساس تصميمات بسيطة وشاملة.
وهكذا، يلقى سكوت الضوء على اسباب فشل مشاريع "الحداثة العالية" فى القرن العشرين، والكوارث التى لحقت بها، وهى فى الاساس تجاهل المعرفة العملية. وان الشئ الوحيد الذى انقذ بعض المجتمعات من الدمار الذى لحق بالأخرين من تلك المشاريع الهزلية هو وجود مواطنين يملكون ثراء فكريا وحكمة توارثوها عن أجدادهم، جيل بعد جيل.
No comments:
Post a Comment
شارك برأيك