بداية، لنتحدث عن فلسلفة بناء المدن العمرانية الجديدة حول القاهرة والجيزة منذ السبعينيات، كيف بدأت؟ وإلى ماذا آلت؟
كانت الدولة أثناء الحقبة الناصرية
تحاول إعادة توزيع السكان خارج الوادي القديم عن طريقة مشاريع لاستصلاح
الأراضي الصحراوية، لكن مُنيت هذه السياسة بالفشل بشكل ملحوظ ولم تؤد إلى
انتقال السكان إلى الأماكن الجديدة، ومع توجه السادات نحو الانفتاح
الاقتصادي، تغيرت سياسات إعادة توزيع السكان؛ فبدأ التفكير في بناء مدن
جديدة لينتقل إليها جزء من سكان المدن القديمة الضخمة. وظهر الجيل الأول من
المدن الجديدة التي كانت تضم مدن: العاشر من رمضان، والسادات، والسادس من
أكتوبر. وكان من المفترض أن تستوعب كل مدينة منها نصف مليون مواطن خلال
عقدين. ما حدث أنه سنة ٢٠٠٦، لم يتجاوز التعداد السكاني في نحو ٢٠ مدينة
جديدة ٨٠٠ ألف نسمة، وفقًا للإحصاء الذي أُجريَ في ذلك العام. ورغم أن
مؤشرات فشل سياسات إعادة توزيع السكان كانت واضحة منذ التسعينيات؛ فإن ذلك
لم يمنع الدولة عن الاستمرار في بناء مدن جديدة، بل وتوسيع مساحات مدن
الجيل الأول وإضافة أراضٍ جديدة لها، ورفع نسبة الإسكان المستهدفة في هذه
المدن.
المشكلة الواضحة في هذه الفلسفة أنها تنمية قطاعية
بالأساس مسؤولة عنها وزارة الإسكان تحديدًا؛ حيث يتم تحديد مساحات من
الأراضي للوزارة التي تقوم بدورها بتقسيمها إلى مناطق صناعية وتجارية
وسكنية، ومدها بالمرافق وبيعها دون دراسات جدوى حقيقية أو دراسات حول
السكان وطبيعة المواطنين المتوقع أن ينتقلوا إلى هذه المدن. المشكلة
الثانية، أن المدن الجديدة كانت بعيدة عن أقرب مدينة أُم لها دون نظم
مواصلات فعالة لربطها ببعض. كانت هناك طرق بالطبع لكن دون أتوبيسات بشكل
دوري أو مترو أو أية وسائل مواصلات عامة، وكان ذلك مقصودًا حتى تصبح هذه
المدن مستقلة عن أقرب تجمعات سكنية لها، وحتى عندما امتدت المواصلات لهذه
المدن كانت في معظمها نظم نقل جماعي، خاصة مثل الميكروباصات والميني باصات
الخاصة.
اعتمد تخطيط هذه المدن على فكر الاستثمار العقاري
دون تخطيط عمراني لكيفية نمو هذه المدن. أدى ذلك في النهاية إلى أن المدن
الجديدة في كل الجمهورية ضمت نحو مليون وحدة سكنية، الساكن منها ربع مليون
فقط، وفق إحصائيات هيئة تنمية المجتمعات العمرانية الجديدة قبل سنة ٢٠١٠،
والجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في دراسته المنشورة عن خطة التنمية
الاقتصادية والاجتماعية.
نستخلص من هذا أنه لا توجد لدينا
أزمة في الوحدات السكنية الشاغرة، هناك حوالي ٧٥٠ ألف وحدة سكنية غير
مسكونة في المدن الجديدة، وأكثر من مليون وحدة في القاهرة الكبرى، ونحو ٧
ملايين وحدة في مصر كلها. وبرغم أن هذه الوحدات موزعة على مناطق مختلفة من
الجمهورية، وبالتالي فهي تخدم احتياجات متعددة؛ فإنها لا تزال شاغرة،
وبالتالي فمن غير المفهوم بناء عاصمة جديدة تضم مليون وحدة سكنية أخرى؛ إذا
كان الغرض هو تخفيف الضغط على المدن القديمة، وبخاصة القاهرة الكبرى.
بعد
كل ما قلته، هناك سؤال مُلح: لماذا نستمر في بناء مدن جديدة كوسيلة لتخفيف
الضغط السكاني على القاهرة الكبرى إذا كانت هذه الفلسلفة لم تنجح على مدار
الأربعين سنة الماضية؟
الإجابة عن هذا
السؤال تتطلب مراجعة تخطيط القاهرة الكبرى خلال العقود الماضية. الفكرة
المبدئية في المدن الجديدة حول القاهرة الكبرى، هي بناء تجمعات سكنية جديدة
على شكل مدن تابعة صغيرة، كأنها أحياء سكنية أو ضواحٍ كي تستوعب الزيادة
السكانية، وفي الوقت نفسه تظل مرتبطة بالقلب التجاري والإداري في القاهرة.
تغير هذا الفكر خلال ١٠ سنوات بين منتصف السبعينيات والثمانينيات؛ حيث تحول
التخطيط من بناء أحياء وتجمعات صغيرة نسبيًا إلى تجميع هذه الأحياء لتصبح
مدنًا مستقلة بذاتها. على سبيل المثال، مدينة "٦ أكتوبر" بُنى بجانبها
مدينة "الشيخ زايد" وشكّلا معًا مدينة واحدة كبيرة بدلًا من عدد من
التجمعات الصغيرة. في شرق القاهرة؛ بُنيت التجمعات "الأول والثالث
والخامس"، ثم تم ضمها لبعضها مع مدينة "الأمل" لتشكل مدينة "القاهرة
الجديدة"، وهكذا تحولت التجمعات السكنية التابعة للقاهرة إلى مدن مستقلة
بذاتها.
تغير آخر حدث في طبيعة مشروع المدن الجديدة
وعلاقته بالقاهرة الكبرى، في البداية كان هناك ميل إلى نقل فقراء القاهرة
إلى المدن الجديدة، بالإضافة إلى مدينتي "النهضة والسلام"؛ حيث تركزت معظم
مشاريع الإسكان الشعبي، غير أن تغيرًا حدث في أواخر التسعينيات، عندما
اكتشفت هيئة "المجتمعات العمرانية الجديدة" أنها تحقق أرباحًا ضخمة من بيع
أراضي الساحل الشمالي التي تم تخصيصها لها سنة ١٩٨٠. الطفرة في بناء قرى
الساحل الشمالي والأرباح المتحققة للهيئة من وراء بيع الأراضي غيّرا فكر
الهيئة ناحية النهج التجاري والاستثماري بشكل ملحوظ؛ فبدأت الهيئة تفكر في
المدن الجديدة التابعة لها بصفتها مشاريع للاستثمار العقاري. في الوقت نفسه
اتجه عدد من رجال الأعمال المصريين مثل: أحمد بهجت وسعودي وراسخ والجمال..
وغيرهم، إلى مجال الاستثمار العقاري كمجال غير متأثر بالانفتاح على السوق
العالمية، وبالتالي فهو أكثر استقرارًا وأقل منافسة من المجالات الصناعية
مثلًا. وبدأ ظهور التجمعات السكنية الخاصة مثل: "دريم لاند ومدينتي والرحاب
والربوة".. وغيرها بالقرب من القاهرة، وهي التجمعات المغلقة على نفسها
والمقتصرة على شرائح من السكان أصحاب الدخول العليا. مثّل هذا التوجه هو
تغير في الخطة الأصلية من نقل الكثافات السكانية الأكثر فقرًا إلى المدن
الجديدة، إلى الاستثمار العقاري في الأراضي المحيطة بالقاهرة لصالح السكان
الأعلى دخلًا.
حقبة جديدة بدأت مع القرار الجمهوري سنة
٢٠٠٧ بتخفيف- أو إزالة- القيود على تملك الأجانب للأراضي، أدت إلى دخول
رؤوس الأموال الخليجية سوق الاستثمار العقاري في المدن الجديدة والمناطق
المحيطة بالقاهرة، ما أدى إلى ارتفاع أسعار العقارات والأراضي المستمر حتى
الآن. اختفت فكرة إعادة توزيع السكان وتخفيف الضغط عن المدن القديمة، وأصبح
الفكر المسيطر هو المضاربة العقارية والاستثمار العقاري. يتضح ذلك من عدد
الوحدات السكنية المُغلقة الكبير وغياب العدالة في توزيع الأراضي بين
الشرائح الاجتماعية المختلفة، على سبيل المثال، كشفت دراسة أجريت على
"القاهرة الجديدة" عن أن ٦٠٪ من أراضي المدينة مخصصة للطبقة فوق المتوسطة،
وحوالي ٢٠٪ للطبقة الغنية، والـ٢٠٪ المتبقية للشرائح المتوسطة والفقيرة
والأكثر فقرًا. هذا الخلل في توزيع الأراضي بالنسبة لشرائح الدخل أدى في
النهاية إلى اتجاه الكتلة السكانية الأكبر داخل المدن للبناء العشوائي على
الأراضي الزراعية تحت ضغط نمو عددها.
تاريخيًا ظهرت فكرة إنشاء عاصمة جديدة أو تطوير العاصمة القائمة بالفعل أكثر من مرة.. كيف يمكن رصد هذه المخططات والأفكار؟
تاريخيًا،
بدأت الفكرة في السبعينيات، عندما كان هناك مشروع لنقل العاصمة إلى مدينة
"السادات"، لكن المشروع لم ينجح. وفي منتصف العقد الماضي بدأ مخطط "القاهرة
٢٠٥٠"، والذي كان يتضمن نقل مباني الوزارات إلى خارج الكتلة السكنية على
أطراف القاهرة بالقرب من الطريق الدائري، لكن دون نقل للبرلمان أو قصر
الرئاسة، غير أن المخطط لم يستمر وأصبح مستقبله غير واضح. ثم ظهر المخطط
الجديد لإنشاء عاصمة جديدة شرقًا وأن يتم تركيز الاستثمار العقاري هناك
بدلًا عن القاهرة التاريخية.
وفقًا لمخطط "القاهرة
٢٠٥٠"، المعتمد على دراسة تم تنفيذها بواسطة جايكا (وكالة المعونة
اليابانية) ووزارة الإسكان، كان هناك مخطط لتخفيف الكثافة السكانية بقلب
القاهرة من ١١ إلى ٩ ملايين عن طريق نقل السكان إلى المدن الجديدة. مثلت
هذه الدراسة رجوعًا لفكرة خلخلة الكثافة السكانية من داخل القاهرة وتوجيهها
إلى خارجها. وركزت الدراسة على نقل المواطنين من المناطق العشوائية وغير
الآمنة والمتدهورة، وذلك عن طريق خلق حزام حول المناطق العشوائية لمنع
تمددها، ومد وتوسيع طرق في وسطها مما يستدعي بالضرورة نقل أجزاء منها، ونقل
أحياء بأكملها مثل: "مثلث ماسبيرو أو رملة بولاق وسكان الجزر النيلية"،
والاستفادة من هذه المساحات في الاستثمار العقاري؛ بدعوى أن هذا سيخفف من
الكثافة السكانية. المشكلة أن هذه المشاريع الاستثمارية كالفنادق والمولات
والمناطق الترفيهية والإدارية، قد لا تضم سكانًا دائمين، لكنها ستخلق كثافة
استخدام تحل محل كثافة السكان، وبالتالي فهي لا تحل مشكلة الضغط على
القاهرة.
هذا ينقلنا إلى السؤال الأهم هنا:
لماذا نبني عاصمة جديدة مع كل هذه المعطيات مع الأخذ في الاعتبار أن أحد
الأهداف المعلنة هو تخفيف الضغط عن العاصمة القديمة؟
بالنسبة
للمدينة الجديدة، لا توجد قراءة واضحة للغرض من المشروع بسبب قلة
المعلومات، ربما يكون الغرض هو فتح مساحة جديدة للاستثمارات العقارية، ربما
هناك توقع أن هذه الاستثمارات ستتزايد مستقبلًا، وهناك رغبة في خلق مساحة
جديدة لها.
لو فكرنا في العاصمة الجديدة من زاوية خلخلة
الكتلة السكنية في القاهرة، فلدينا الاعتبار الذي ذكرناه سابقًا، هناك نحو
مليون وحدة سكنية شاغرة في القاهرة الكبرى، ونحو ٧٥٠ ألف وحدة في المدن
الجديدة بمجملها، فمن غير المعقول أن نبني مليون وحدة جديدة في مدينة
واحدة. ولو أخذنا في الاعتبار أن أعلى معدل نمو لأية مدينة لا يزيد على
١٠٪، يصبح المستهدف من العاصمة الجديدة، أن تضم ٥ ملايين نسمة، هدف غير
منطقي، حتى مع الاعتماد على الكتلة المضمونة الخاصة بالموظفين العاملين في
الوزارات والمباني الإدارية الحكومية التي سيتم نقلها إلى العاصمة، وبخاصة
مع عدم وجود تأكيدات أن كل هؤلاء الموظفين سينتقلون إلى العاصمة؛ فمن خبرة
المدن الجديدة- التي ضمت مناطق صناعية وإدارية وتجارية- لم يسكن العاملون
فيها هذه المدن نفسها، ومن سكن منهم فيها احتفظ بوحدة سكنية أخرى في مدينته
الأم، فبالتالي لم يحدث الغرض المطلوب، وهو إعادة توزيع السكان على المدن
الجديدة.
جانب آخر هنا لقراءة معالم الخريطة السكانية، أن
معظم من يقطنون القاهرة الكبرى هم من الحرفيين والعاملين في المهن الصغيرة،
وبالتالي هؤلاء من يشكلون النسبة الأكبر من السكان. بينما تعتمد العاصمة
الجديدة على توفير مساحات عمل إدارية وخدمية سواء حكومية أو خاصة، وبالتالي
فلن ينتج عنها انتقال الكتلة التي تشكل كثافة حقيقية داخل القاهرة الكبرى.
هناك
أهمية لإجراء دراسات اجتماعية شاملة؛ لاستكشاف من سيسكن هذه العاصمة
بالفعل، قبل نقل كل هذه المباني الإدارية والإنفاق على تأسيس البنية
التحتية المطلوبة للمدينة.
الأهمية الأخرى التي عبّر عنها
وزير الإسكان، هي ربط العاصمة الجديدة بمشروع تطوير إقليم "قناة السويس"،
وتعليقي هنا أنه هناك ٧ أقاليم اقتصادية في مصر، المفترض أن يكون لكل إقليم
منها مشروع قومي لتطويره وتنميته، وبالتالي فمن غير المنطقي نقل العاصمة
بجوار الإقليم، بل تطوير الإقليم نفسه بمدنه وسكانه.
ماذا سيكون تأثير العاصمة الجديدة في القاهرة والاقتصاد بشكل عام؟
أتخوف
من نقاط عدة: أولًا، أن تتسبب المدينة الجديدة بالحجم المعلن عنه في خلق
أزمة في الموارد المختلفة، لدينا مشكلة في الطاقة الكهربية وكذلك أزمة
مياه، فهل من المنطقي بناء مدينة بهذا الحجم تضيف العبء إلى شبكات الكهرباء
والمياه بدلًا من دعم كفاءة هذه الشبكات؟! صحيح أن ما أعلن حتى الآن أن
جزءًا من كهرباء المدينة سيتم توفيره عن طريق محطات طاقة متجددة، لكن سيظل
هناك جزء آخر معتمد على الشبكة القديمة. وصحيح أيضًا أنه يمكن تمويل بناء
محطات المياه الجديدة للمدينة عبر الاستثمارات لكن سيظل المورد نفسه، أقصد
هنا المياه، محدود.
ثانيًا، هناك تخوف أيضًا أن تؤثر عملية
بناء العاصمة الجديدة في قطاع المقاولات؛ حيث سيتجه تركيز القطاع بدرجة
كبيرة على أعمال الإنشاءات في العاصمة الجديدة طوال فترة البناء على حساب
المناطق الأخرى، التي لا تزال تحتاج إلى صيانة شبكاتها ومرافقها وتطويرها.
وكذلك انعكاس عمليات البناء الضخمة على أسعار مواد البناء والأراضي في
المنطقة، وهناك المخاوف من أن يؤدي بناء العاصمة الجديدة- هذه المقاولة
الضخمة- إلى خلق فقاعة اقتصادية، بمعنى حدوث رواج اقتصادي مؤقت وغير حقيقي.
ثالثًا،
هناك عدم وضوح في الطريقة التي ستستفيد بها القاهرة التاريخية فعليًا من
العاصمة الجديدة، سواء على مستوى تخفيف الكثافة داخلها أو توفير الموارد
الكافية لصيانة القاهرة؛ وبخاصة مع عدم وجود أية دراسات تقول كيف سيتحقق
ذلك؟! المشكلة أن كل ما تم إعلانه حتى الآن يقول إننا بصدد مشروع عقاري ضخم
لكن دون دراسات اجتماعية واقتصادية واضحة. نحن بصدد بناء مدينة دون أساس
اجتماعي واقتصادي واضح لكيفية نموها سكانيًا.
شكراً لكم على تغطية كل جديد حول العاصمة الادارية الجديدة
ReplyDelete